2025-02-07T12:33:04+00:00
شفق نيوز/ شهدت بغداد على مر العصور، العديد من المهن والحرف التقليدية
التي كانت جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية، لكنها اندثرت بفعل التطور والتكنولوجيا.
ورغم غيابها عن المشهد اليوم، إلا أن تلك المهن ما زالت حاضرة في الذاكرة
الشعبية، حيث ارتبطت بحقبة زمنية تثير الحنين لدى كثيرين.
في زيارة إلى المتحف البغدادي في شارع المتنبي، وثقت عدسة وكالة شفق نيوز،
بعضاً من هذه المهن المنقرضة، والتي كانت شائعة في بغداد لسنوات طويلة، ومنها
“خياط الفرفوري”، “ساعي البريد”، و”اللمبجي”.
حرفة الفخار المكسور
في ستينيات القرن الماضي، كانت مهنة خياط الفرفوري واحدة من أكثر المهن
انتشاراً، حيث كان هذا الحرفي يتخصص في إصلاح الأواني الفخارية المكسورة التي تشمل
الصحون، الأباريق، والكاسات، وهي أدوات كانت أساسية في المقاهي والمطاعم.
كان أصحاب هذه المهنة يتجولون في الأزقة حاملين عدة العمل، ويطلقون نداءهم
المميز “خياط فرفوري”، مما كان كافياً لجذب زبائنهم من أصحاب المقاهي
والمنازل، ومع ذلك لم تكن هذه المهنة مجزية مالياً، حيث كان يمارسها غالباً
الفقراء الذين يرضون بالقليل مقابل جهدهم.
رغم اندثارها، ما تزال هذه المهنة عالقة في ذاكرة الحاج حسين عبد الرضا،
أحد أقدم خياطي الفرفوري، والذي لم يعد قادراً على الحديث بسبب كبر سنه، لكن ابنه
عبد الكريم حسين صاحب 49 عاماً يتذكرها جيداً.
يقول عبد الكريم، خلال حديثه للوكالة: “رغم أن والدي لم يكن يربح
الكثير، إلا أنه استطاع شراء بيت من مردود هذه المهنة، كنت صغيرًا عندما كان يعمل،
لكن نداءاته ما زالت ترن في أذني. كان الجيران يجلبون أوانيهم إلى منزلنا
لإصلاحها، ولم يكن هناك جشع كما هو اليوم، بل كانت هناك روح التكافل بين الجميع”.
ويضيف عبد الكريم، خلال حديثه لوكالة شفق نيوز، أن “والده كان يستخدم
آلة بدائية تشبه ماكينة الخياطة، تعمل بالأرجل لحفر الفخار وترميمه إلى جانب مادة
لزجة للصق الأجزاء المتكسرة وشرائط من التنك لتقوية الإبريق، ومع توافر الفخار
بأسعار زهيدة، انتهت الحاجة إلى هذه الحرفة واختفت تماماً”.
رسول المشاعر
مهنة أخرى اندثرت مع الزمن، لكنها ظلت محفورة في وجدان العراقيين، وهي مهنة
ساعي البريد، الذي كان يحمل رسائل مليئة بالمشاعر واللهفة، ويطرق الأبواب ليزف
الأخبار السعيدة أو ينقل رسائل الحنين والشوق.
كان ساعي البريد يجوب الأحياء بدراجته الهوائية وحقيبته الممتلئة بالرسائل،
محققاً لحظات انتظار مشوقة لأصحاب الرسائل، وقد شكلت هذه المهنة جزءاً مهماً من
الحياة الاجتماعية في ذاك الوقت، إلى أن قضت عليها ثورة الإنترنت والهواتف النقالة
لتصبح مجرد ذكرى في ذاكرة العراقيين.
يتذكر عباس الموسوي، كيف كانت والدته تحتفظ بالرسائل التي كانت تصلها عبر
ساعي البريد من ابنتها التي تزوجت في محافظة أخرى.
ويقول الموسوي، في حديث لوكالة شفق نيوز، عن أمه إنها “كانت أمية لا
تقرأ ولا تكتب، إلا أنها كانت تفتح الصندوق الحديدي بين الحين والآخر، تتأمل
الرسائل وكأنها ترى ابنتها فيها”.
لقد كان ساعي البريد أكثر من مجرد موظف حكومي، بل كان شاهداً على قصص الفرح
والحزن، وصلة وصل بين الأحبة، إلا أن الزمن طوى هذه المهنة، كما طوى معها ذكريات
انتظار الرسائل بشوق كبير.
صانع الضوء قبل الكهرباء
من المهن الأخرى التي اختفت مع التطور التكنولوجي، هي مهنة
“اللمبجي”، أو صانع المصابيح النفطية “الفوانيس”، التي كانت
تعتمد عليها المنازل والشوارع قبل دخول الكهرباء إلى العاصمة بغداد قبل عشرات
السنين.
كان “اللمبجي”، يعتمد في عمله على علب الصفيح والزجاج لصناعة
الفوانيس، التي كانت توفر الإنارة للمحال والمنازل، ومع غروب الشمس، كان
“اللمبجي” يمر حاملاً إبريق النفط ليشعل الفوانيس، ويعود فجراً
لإطفائها، مقابل راتب من البلدية وإكراميات من الأهالي.
وفي هذا الصدد، يقول الباحث في التراث عدنان صباح البهادلي، في حديث مقتضب
لوكالة شفق نيوز، إن “هذه المهنة كانت شائعة جداً، وكانت بعض العائلات
تتوارثها جيلاً بعد جيل، حتى جاء التيار الكهربائي، الذي قضى على هذه المهنة وجعل
الفوانيس مجرد قطع أثرية للزينة”.
المهن تختفي والذكريات تبقى
رغم أن التطور التكنولوجي غير ملامح الحياة وألغى العديد من المهن
التقليدية، إلا أن ذاكرة العراقيين ما زالت تحتفظ بقصصها وتفاصيلها.
فهذه المهن كانت تعكس روح الحياة البسيطة، حيث لم يكن الناس يخجلون من كسب
قوتهم بعرق جبينهم، بل كانوا يفخرون بعملهم، مهما كان متواضعاً.
اليوم، لم يعد هناك ساعي بريد يحمل الرسائل، ولا خياط فرفوري يصلح الأواني
المكسورة، ولا لمبجي يشعل الفوانيس في الليل، لكنها ستبقى جزءاً من تراث بغداد
العريق، محفورة في قلوب من عاشوا تلك الأيام.